
زمنٌ وصف بأنّه لحظة انتصار الأقليات في العالم، ضربة قاضية للدول التي لطالما قمعت القوميات التي تنتمي الى أرضها ومنعتها من الاستقلال والسيادة، خطوة أولى في مسيرة الألف ميل لتقسيم ما يُعرف بـ"الدول" التي باتت مفهوماً قديماً نسجت العولمة حوله خيوط الزمن كي تخرجه الى مزبلة التاريخ. شعوب تصرخ للانفصال كحلّ وحيد لاستمراريتها، والثمن غالباً ما يكون غالياً فتدفع من خصوصيتها وقرارها الحرّ الكثير ولا يبقى لها إلا حدود تفصلها عن الدولة الام.
الحكم الذاتي
a
نزعة انفصالية قومية تنتشر بين الدول راسمة خطراً داهماً حول المجتمع الدولي وتنظيماته العالمية، فالدول بمفهومها القانوني كأرض وشعب وسلطة تقوم على السيادة الكاملة باتت في مهبّ الريح مع موجة إجتياح العولمة لكلّ المبادئ التقليدية حيث أنّ اللاعب على الساحة الدولية لم يعد محصوراً بالدولة لا بل أنّ دورها بات مهمّشاً لصالح الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية. أمّا انتماءات الشعوب والتي ضمنت استمرارية دول كثيرة باتت هي الأخرى مهدّدة مع بروز مفهوم الحكم الذاتي والانفصال في دول خاصّة بكلّ إتنية أو قوم منهم ما ألغى أي تعلّق بالكيان الاساسي والدولة الحاضنة.
رصاصة الرحمة
ألبان كوسوفو يحتفلون في الشوارع حاملين العلمين الأميركي والألباني، صرخات الفرح تصدح بنشوة الاستقلال الذي تحقّق بعد انتظار ثماني سنوات، أصواتهم تصل الى شعوب اخرى في دول بعيدة أو قريبة داعية إلى اتباع النهج نفسه. فلحظة أعلنت كوسوفو دولة مستقلة، أطلقت رصاصة مباشرة الى قلب "الدولة" حيث أعطت شرعية للتحركات الإنفصالية. ورغم أنّه لا يمكن إنكار حقّ بعض الاقليات في الاستقلال بسبب اضطهاد الدولة الام أو بسبب عدم التجانس بين مكوّنات الشعب ما يمكن أن يؤدي الى فدرالية، فبداية طريق الإنفصال الذي لن يعرف نهاية قد بات أمراً واقعاً.
... الى الانفصال سِر
رياح الاستقلال تدفع الدول مهما عظمت قوّتها الى الترّنح بين المحافظة على سيادتها والمضايقات اليومية التي تتعرض لها جراء إبقائها تحت ظلالها قوماً يطمح الى الانفصال. فاستقلال كوسوفو الاحادي الجانب والذي اعترفت به القوّة الاميركية العظمى كان وقعه قويّاً في روسيا الخائفة من مطالبة دول الاتحاد السوفياتي بالانفصال عن موسكو بعد أن نال الاتحاد حصّته من التقسيم وتبعته يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. والمشكلة لا تقتصر على هذه البقعة من الأرض بل هي متفشاة بين كشمير الهند وفوضى تيمور الشرقية وصراع الشيشان. وحتّى العملاق الصيني يرتجف أمام فكرة التقسيم حيث يمكن لتايوان أن تطالب بالمثل، وفي إيران يسعى إقليم الأحواز العربي الى الاستقلال. أمّا الخطر الاكبر فيكمن في القارة الافريقية حيث أنّ أعمال الانفصال لا يمكن أن تقتصر على عملية سلمية وتظاهرات مندّدة بل ستؤدي الى عنف وحمامات دم لا تنتهي.
الرفيق الكردي
القضية واحدة، غير أنّ الزمن مختلف. كوسوفو استقلت والعالم يتساءل عن التالي الذي سيحقّق حلم الانفصال، والانظار تتجه الى كردستان، تلك الأرض التي لم ترض يوماً بالبقاء تحت راية السلطة العراقية، وطرح قضية هذا الإقليم في المحافل الدولية من جديد يعيد النظر في وضعه خصوصاً أنّ الكيان العراقي مرشح للتقسيم الى كيانات ثلاث أي دولة شيعية وأخرى سنية ودولة كردية. خطى كردستان نحو الاستقلال ما زالت غير ثابتة لكنّها ليست ببعيدة عن تحقيق حلمها الازلي. وفي الشرق الاوسط، كردستان ليست وحدها في قضية الانفصال، ففي باكستان يسعى البلوش الى إقامة دولة خاصّة بهم، بينما تسعى الحركة الشعبية لتحرير السودان الى إقامة دولة في الجنوب إضافة الى محاولات انفصال دارفور.
إستقلال أو ذوبان؟
فرحة الانفصال تبدو في بعض الأحيان انتصاراً لمبدأ الردّ القاضي على المشاكل التي تتنازع شعب دولة واحدة غير أنّ حقيقة الامور تلقي بظلال سوداء تبدّد هذا الشعور بأنّ الحلّ قد ثبت والعقبات قد باتت في خبر كان. فاستقلال أي دولة سيكون حتماً قائماً على اعتراف دول أخرى بها، ما يمكن أن يجعل سيادتها محدودة بظلّ الضغوط الدولية التي تتعرض لها. والمثال الابرز على ذلك، الدعم الاميركي لاستقلال كوسوفو حيث أنّ هذا الدعم ليس مجانياً وهو يصبّ لمصلحة الاميركيين. وإذا كان النظام الدولي الذي يسعى الى فرض نفسه على العالم يتمثل بمفهوم العولمة، فإستقلال الاقليات لن يكون إلا سبباً إضافياً لذوبانها في كيان أكبر لن يكون ضامناً لفرادتها ووجودها الفعّال. كما أنّ منحى التقسيم ليس طريق تحقيق السلام بين الدول حيث أنّه يمكن أن يكون سبباً لتعزيز الاصوليات وانغلاق الدويلات التي ستولد من رحم الدول.