الجمعة، 30 مايو 2008

”فرِّق تسُد”... لعبة التقسيمات على أرض الأمم

زمنٌ وصف بأنّه لحظة انتصار الأقليات في العالم، ضربة قاضية للدول التي لطالما قمعت القوميات التي تنتمي الى أرضها ومنعتها من الاستقلال والسيادة، خطوة أولى في مسيرة الألف ميل لتقسيم ما يُعرف بـ"الدول" التي باتت مفهوماً قديماً نسجت العولمة حوله خيوط الزمن كي تخرجه الى مزبلة التاريخ. شعوب تصرخ للانفصال كحلّ وحيد لاستمراريتها، والثمن غالباً ما يكون غالياً فتدفع من خصوصيتها وقرارها الحرّ الكثير ولا يبقى لها إلا حدود تفصلها عن الدولة الام.


الحكم الذاتي
a
نزعة انفصالية قومية تنتشر بين الدول راسمة خطراً داهماً حول المجتمع الدولي وتنظيماته العالمية، فالدول بمفهومها القانوني كأرض وشعب وسلطة تقوم على السيادة الكاملة باتت في مهبّ الريح مع موجة إجتياح العولمة لكلّ المبادئ التقليدية حيث أنّ اللاعب على الساحة الدولية لم يعد محصوراً بالدولة لا بل أنّ دورها بات مهمّشاً لصالح الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية. أمّا انتماءات الشعوب والتي ضمنت استمرارية دول كثيرة باتت هي الأخرى مهدّدة مع بروز مفهوم الحكم الذاتي والانفصال في دول خاصّة بكلّ إتنية أو قوم منهم ما ألغى أي تعلّق بالكيان الاساسي والدولة الحاضنة.

رصاصة الرحمة

ألبان كوسوفو يحتفلون في الشوارع حاملين العلمين الأميركي والألباني، صرخات الفرح تصدح بنشوة الاستقلال الذي تحقّق بعد انتظار ثماني سنوات، أصواتهم تصل الى شعوب اخرى في دول بعيدة أو قريبة داعية إلى اتباع النهج نفسه. فلحظة أعلنت كوسوفو دولة مستقلة، أطلقت رصاصة مباشرة الى قلب "الدولة" حيث أعطت شرعية للتحركات الإنفصالية. ورغم أنّه لا يمكن إنكار حقّ بعض الاقليات في الاستقلال بسبب اضطهاد الدولة الام أو بسبب عدم التجانس بين مكوّنات الشعب ما يمكن أن يؤدي الى فدرالية، فبداية طريق الإنفصال الذي لن يعرف نهاية قد بات أمراً واقعاً.

... الى الانفصال سِر

رياح الاستقلال تدفع الدول مهما عظمت قوّتها الى الترّنح بين المحافظة على سيادتها والمضايقات اليومية التي تتعرض لها جراء إبقائها تحت ظلالها قوماً يطمح الى الانفصال. فاستقلال كوسوفو الاحادي الجانب والذي اعترفت به القوّة الاميركية العظمى كان وقعه قويّاً في روسيا الخائفة من مطالبة دول الاتحاد السوفياتي بالانفصال عن موسكو بعد أن نال الاتحاد حصّته من التقسيم وتبعته يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. والمشكلة لا تقتصر على هذه البقعة من الأرض بل هي متفشاة بين كشمير الهند وفوضى تيمور الشرقية وصراع الشيشان. وحتّى العملاق الصيني يرتجف أمام فكرة التقسيم حيث يمكن لتايوان أن تطالب بالمثل، وفي إيران يسعى إقليم الأحواز العربي الى الاستقلال. أمّا الخطر الاكبر فيكمن في القارة الافريقية حيث أنّ أعمال الانفصال لا يمكن أن تقتصر على عملية سلمية وتظاهرات مندّدة بل ستؤدي الى عنف وحمامات دم لا تنتهي.

الرفيق الكردي

القضية واحدة، غير أنّ الزمن مختلف. كوسوفو استقلت والعالم يتساءل عن التالي الذي سيحقّق حلم الانفصال، والانظار تتجه الى كردستان، تلك الأرض التي لم ترض يوماً بالبقاء تحت راية السلطة العراقية، وطرح قضية هذا الإقليم في المحافل الدولية من جديد يعيد النظر في وضعه خصوصاً أنّ الكيان العراقي مرشح للتقسيم الى كيانات ثلاث أي دولة شيعية وأخرى سنية ودولة كردية. خطى كردستان نحو الاستقلال ما زالت غير ثابتة لكنّها ليست ببعيدة عن تحقيق حلمها الازلي. وفي الشرق الاوسط، كردستان ليست وحدها في قضية الانفصال، ففي باكستان يسعى البلوش الى إقامة دولة خاصّة بهم، بينما تسعى الحركة الشعبية لتحرير السودان الى إقامة دولة في الجنوب إضافة الى محاولات انفصال دارفور.

إستقلال أو ذوبان؟

فرحة الانفصال تبدو في بعض الأحيان انتصاراً لمبدأ الردّ القاضي على المشاكل التي تتنازع شعب دولة واحدة غير أنّ حقيقة الامور تلقي بظلال سوداء تبدّد هذا الشعور بأنّ الحلّ قد ثبت والعقبات قد باتت في خبر كان. فاستقلال أي دولة سيكون حتماً قائماً على اعتراف دول أخرى بها، ما يمكن أن يجعل سيادتها محدودة بظلّ الضغوط الدولية التي تتعرض لها. والمثال الابرز على ذلك، الدعم الاميركي لاستقلال كوسوفو حيث أنّ هذا الدعم ليس مجانياً وهو يصبّ لمصلحة الاميركيين. وإذا كان النظام الدولي الذي يسعى الى فرض نفسه على العالم يتمثل بمفهوم العولمة، فإستقلال الاقليات لن يكون إلا سبباً إضافياً لذوبانها في كيان أكبر لن يكون ضامناً لفرادتها ووجودها الفعّال. كما أنّ منحى التقسيم ليس طريق تحقيق السلام بين الدول حيث أنّه يمكن أن يكون سبباً لتعزيز الاصوليات وانغلاق الدويلات التي ستولد من رحم الدول.

زهرة سمراء تتكسّر تحت ضربات التناحرات القبلية


زهرة سمراء تتكسّر تحت ضربات التناحرات القبلية




الحلم بات كابوساً... دولة نموذجية رُسمت حولها تصورات وردية كحاملة شعاع الديمقراطية بين جاراتها اللواتي غرقن في بحر التصفيات القبلية خيّبت أمل شعبها وكلّ من تطلّع لمحاكاة نظامها في أزمة بدأت انتخابية وانتهت بتأجيج مشاعر الحقد الدفينة بين أبناء البلد الواحد.

صبغة الإنتقام

عائلات شرّدت من منازلها، أطفال يبكون بعدما فتك الجوع بهم، منازل أحرقتها أعمال العنف فودعت أهلها وأصبحت رماداً لا حياة فيه. كينيا، بلد خسر فرادته حين انتقلت حمى الاقتتال الى أراضيه فكسته بصبغة الانتقام المتبادل فسيطرت المنافسة الانتخابية على عقول الكينيين بين جبهتين كبيرتين، واحدة تمثل الرئيس والحزب الحاكم وأخرى معارضة تمثل قيادة بديلة للتغيير. منافسة حكمتها الخروقات في عدد كبير من الدوائر فكان التزوير عنوانها بشهادة المراقبين الدوليين، وبطلتها المعارضة التي طرحت نفسها كصاحبة الحقّ، وردّة فعل الرئيس، حلف اليمين في القصر الجمهوري.

أزمة حليفين

صراع موالاة ومعارضة، هكذا عرّفت الأزمة الكينية الى العالم لكنّ الحقيقة ما لبثت أن بانت حين أزيلت القشور عن الانقسامات الحقيقية للشعب الكيني والتي بدأت قبل الانتخابات ولكنّها عرفت ذروتها حين بات مصير فئة من الشعب مهدداً. حليفا الماضي رايلا أودينغا والرئيس الحالي مواي كيباكي، حملا معهما الشعب الكيني الى المجهول حين خاضا الانتخابات ضدّ بعضهما وفي نيتهما إلغاء الآخر وتثبيت هيمنة قبيلة على أخرى. المعارض السابق كيباكي الذي أنهى سيطرة دانيال اراب موي التي طالت 24 عاماً تحت اسم "تحالف قوس القزح الوطني" في العام 2002 ناسجاً تحالفاً مع أودينغا للوصول الى سدّة الرئاسة بات اليوم هو المُطالب بالرحيل بعد أن عاد هاجس عدوّه أودينغا يلاحقة في مسيرة المعارضة.

صراع قبلي

وصول كيباكي الى الحكم منذ ست سنوات انتشل الاقتصاد الكيني من القعر وعادت البلاد مرتعاً للسياح الذين أنفقوا مليارات الدولارات سنوياً، لكن الفشل كان رفيق النجاح في مسيرة الرئيس حيث انّ محاولات تثبيت هيمنته كسر التحالفات القديمة فتحوّل صراع الافراد الى عداوة شعب لبعضه البعض، فاصطفّ الكيكويو خلف رئيس الجمهورية، فيما حشد زعيم المعارضة ائتلافاً من قبائل عديدة، وأهمها قبيلة الليو. استقرار نعمت به البلاد طويلاً زعزعته عقدة السلطة في مجتمع لا تملك فيه أية قبيلة أكثرية كافية لبسط نفوذها فكانت النزاعات المدمرة هي الحاكم الاخير.

انهيار أمني

مئات الاشخاص قتلوا في الاضطرابات وأعمال العنف التي أعقبت انتخابات الرئاسة منذ 27 كانون الأول الماضي. 250 ألف شخص هربوا من المناطق الاكثر تضرراً في البلاد... فسقط الاستقرار الذي لطالما تغنت كينيا به. عمليات السلب والنهب تنتشر في الشوارع زارعة الخوف في قلوب الابرياء من إنفلات أمني لا يردعه رادع والفقر عاد بجبروته ليتحكم بنفوس الكينيين، كل ذلك تحت شعار "تزوير الانتخابات" ولكن ما يتردّد في أروقة الحكومة الكينية يمسّ الازمة في جوهرها، فما يحدث حقاً هو عملية "تطهير عرقيّ" بين الكيكويو والليو كما حدث في مجزرة راوندا العام 1994. فقد شهدت مدينة الدورت الواقعة في الشمال الغربي من البلاد العديد من الفتيان وهم يلوحون بالفؤوس والسواطير، ويقيمون الحواجز على الطرقات ويصبون جام غضبهم وانتقامهم من جيرانهم الكيكويو.

سيناريو رواندا

عنف يهزّ المدن الكينية، زارعاً الرعب في نفوس السكان من العصابات المسلحة التي تجوب الشوارع، مشاهد تعيد الى الذاكرة الجريمة التي وقعت في راوندا، جارة كينيا، حيث وقع 800 ألف مدني ضحية الصراع الاثني حين نظمت قبيلة الهوتو تظاهرات للمطالبة بالديمقراطية بعد اغتيال بعض المرشحين للانتخابات النيابية من ممثلي قبائل الهوتو واتهام قادة الجيش من قبيلة التوتسي بتنفيذها، فتحولت التظاهرات الشعبية إلى أعمال عنف جرّت الى هذه البلاد ويلات الهجرة والالغاء. مستقبل خطير تحاول البعثات الدبلوماسية تفاديه، فتنشط الوساطات وخصوصاً من قبل رئيس الاتحاد الافريقي لإخراج كينيا من قمقمة الزوال.

تحالفات دولية

ثروات طبيعية هائلة، ألماس وذهب ونحاس ركّزت اهتمام الدول الكبرى على "البحيرات العظمى" أي كينيا ودول الجوار التي تعوم على موارد تحلم بها الدول الاوروبية وتتطلع إليها الولايات المتحدة ما وضعها في مهبّ رياح التدخلات الخارجية. نزاعات مستمرة منذ أكثر من نصف قرن هزّت دول أفريقيا وشعوبها فكانت المجازر هي لغة الحوار والإلغاء طريقة التعاطي بين قبائل البلد الواحد. واقع استطاعت كينيا أن تنجو منه طويلاً لكنّه ما لبث أن طرق أبوابها تحت راية سياسية. ولكن لا يمكن تجاهل موقع هذه الدولة الاستراتيجي بالنسبة لواشنطن وباريس، فهي جنة استثمارية بالنسبة لهم، والاستنفار الدولي بعد الانتخابات الكينية خير دليل أن العواصم الكبرى لن تقف مكتوفة الأيدي أمام انزلاق كينيا محاولة إعادة إرساء ثقافة الحوار ولكنّها لم تنجح في تحصينها من لعنة التناحر القبلي الذي يمهر القارة الافريقية بطابع التخلّف.

الثلاثاء، 27 مايو 2008

طبخة دولية في أتون الدرع الصاروخي

موقف حازم، وقف زرع الدرع الصاروخي عل حدود روسيا أو الإنسحاب من معاهدة الحد من الاسلحة
النووية متوسطة المدى. مفاوضات ضربت "عرض الحائط" والأمل بتعاون مستقبلي بين غريمي الماضي لم يلق إلا ردّاً موجعاً إتسم بالحذر والخوف المتبادلين بين دولتين لم تعرفا يوماً الثقة المتبادلة. جمرٌ تحت الرماد يرسم ملامح حرب قديمة – جديدة لا تلبث أن تنطفأ حتّى تشتعل من جديد.

الثنائية الدولية

إختلال في ميزان القوى النووية في القارة الأوروبية بدت ملامحه تنبعث من تصريحات ممثلي إمبراطورية الولايات المتحدة. عصر جديد من العلاقات الثنائية بين أعداء الماضي و"أصدقاء" الحاضر يعيد الى الأذهان ما لم تمحيه الأيام من غيرة متبادلة على نفوذ سياسيّ يلغي الشريك الآخر في النظام العالمي، ويعيد سلطة الثنائية الدولية التي لم يبزغ عنها إلا ويلات الدول وعذابات الشعوب. درع صاروخي متاخم لحدود العملاق المنهار الذي يسعى الى إعادة "الأيام الجميلة" من رماد إتحاد تفكّك ولم يبق منه إلا دويلات تهدّد الدولة الأم بفتح أراضيها للغريم الأميركي.
ضدّ من؟

إنعكاسات أمنية لنظام الدرع الأميركي المضاد للصواريخ (National Missile Defense ) تؤثر على التوازن الإستراتيجي بين الدول الكبرى، وخصوصاً بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، طارحةً تساؤلات شائكة حول الهدفية من مواقع الصواريخ الإعتراضية. معاهدات دولية توضع في موقع الشكّ حول إنتشار الصواريخ البالستية وحظر الأسلحة النووية وتسريع سباق التسلّح وزعزعة التوازن الدولي عموماً والشرق الأوسط خصوصاً. والسؤال الذي يقضّ مضجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليلاً والجواب ما زال غائباً عن باله هو هوية العدوّ الذي تنصب ضدّه هذه المواقع كلّها، ويأتيه الجواب سريعاً من الخارجية الأميركية "صواريخنا موّجهة ضدّ الدول المارقة أي إيران النووية وكوريا الشمالية، وهي بالتأكيد ليست موّجهة الى القوات الإستراتيجية الروسية". غير أنّ القلق لا يلبث أن يساوره من جديد حين يصرّح الخبير الأميركي في الأسلحة فيليب كويل الذي عمل في إدراة الرئيس الأميركي بيل كلينتون أنّه في حالة "إذا عملت روسيا على نصب صواريخ دفاعية في كندا أو كوبا، نحن في واشنطن سنقوم بمثل ذلك، أي الإقتراب أكثر فأكثر من حدودهم، وسنحيطهم بصواريخنا الدفاعية".

يوم مصيريّ

أوراق هزّت العالم، Fact sheet أو "نشرة الحقائق"، لم تنثني عن إثارة صراع العملاقين الروسي والأميركي. 18 نيسان 2007، يوم لن يمحى من ذاكرة الدول حين صدر قرار نشر الدرع الصاروخي بالقرب من الحدود الروسية. حقائق عن الحجم التقريبي لكل موقع صاروخ إعتراضي في بولندا ورادار تحديد الموقع في جمهورية التشيك الذي يصل الى 300 هكتار. جيش من الموّظفين العسكريين والمدنيين الذين ينتشرون في المواقع متحكمين بالأجهزة الإلكترونية التي ستزرع الخوف في الأراضي التي وقعت القرعة عليها بأن تكون جارة المشروع الأميركي. صواريخ إعتراضية تخزّن في المستودعات الأرضية في بولندا وقذائف يعتمد على طاقتها الحركية لتحطيم الرؤوس الحربية القادمة. نشرة ثبتت الحجج الأميركية حول الدرع الصاروخيّ الذي سيصدّ الهجمات المحتملة الواردة من إيران أو كوريا الشمالية، وفتحت أفقاً للتعاون مع روسيا التي لن تتوقف عن طرح أسئلة مزعجة للكيان الاميركي.
تدهور خطير

مناقشات روسية-أميركية إصطدمت بجدار تدهور العلاقة بين إدارة بوش المنهكة قبل سنة من نهاية ولايته وسلطة بوتين الذي يستعيد قواه لتطوير بلاده إقتصادياً وعسكرياً. خطر محدق حذّر منه وزير الدفاع الروسي سيرغي إيفانوف بدل التجاوب التي كانت تتمناه وزير الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، فلم تلق إلا برودة موروثة عن الحرب الباردة. وفي حين استهزأ بوتين بالخطر الايراني مقترحاً نشر الدرع الاميركية "فوق القمر" دعا لافروف واشنطن الى تعليق المشروع محذرا من ان موسكو ستعرقله اذا نشر. ولمّا تنصلّت رايس من مسؤولية سياستها في الوصول الى "القطوع" الروسي ملقية اللوم على "العوامل الخارجية"، توّحهت الى جبهة حقوق الانسان لتطلب مزيدا من الديمقراطية في روسيا غداة فشلها في حلحلة الخلاف بين واشنطن وموسكو حول مشروع الدرع الصاروخية الاميركية في اوروبا. طلب لم يلق الصدى الجيّد عند المسؤولين الروس الذين أصرّوا على موقفهم الرافض الذي لن يلين إلا إذا تغيّرت السياسة الأميركية الخارجية.
آراء متناقضة

دولتان من الكتلة الشرقية، أعلنتا إنتمائهما الى حلف الشمال الأطلسي أو "الناتو" فشرّعت أرضيهما للمشاريع الغربية التي وجدت فيهما أرضاً خصبة للتحرّش بروسيا. درع صاروخيّ سيتمركز على ترابهما ويهدّد علاقتهما بجارتهما التي باتت أكثر ما تخاف من طعنة الأقارب. غالبية البولنديين يعارضون نشر الدرع الأميركي المضاد للصواريخ في بلادهم التي يمكن أن تصبح عرضة لهجمات إرهابية، بينما القرار السياسيّ البولندي في وادٍ آخر حيث أعلن رئيس وزراء بولندا رضاه عن الدرع وحظي المشروع بعم قوي من رئيس الجمهورية البولندي ليخ كازينسكي. أمّا تشيكيا فهي متورطة دائماً في الطبخ الأميركي بما في ذلك سلاح الدمار الشامل، فبينما يطالب زعيم الحزب الإشتراكي المعارض جيري باروبك بتنظيم إستفتاء حول محطة الرادار التي تنوي الولايات المتحدة إقامتها في تشيكيا، يرى رئيس الوزارء ميرك توبولانك أنّ المخاوف الروسية غير عقلانية، وأنّ الدرع سيستخدم في إطار قوات الحلف الأطلسي.
الأمل الأخير

بصيص حلّ يحاول أن يولد من رحم الصراع الأميركي – الروسي تمثلّ بإقتراح الرئيس بوتين المشاركة في الإستخدام العسكري الأميركي لمحطة الرادار الاذرية في أذربيجان كجزء من خطة مضادة لخطط واشنطن الخاصة بتحديد أماكن مواقع الدرع الدفاعي الصاروخي في تشيكيا وبولندا. ومحطة "قابالا" السوفياتية الأصل تقع في شمال شرق أذربيجان، على مسافة 200 كم من حدود إيران. غير أنّ الردّ الأميركي أتى مخالفاً للآمال المعقودة عليه حيث سارع الرئيس الأميركي جورج بوش بالقول "إن الاقتراح جيد لكن الإدارة الأميركية تشدّد على أن هذه القضية منفصلة عن منظومتها الدفاعية الصاروخية في أوروبا". إستراتيجة التعاون لم تستطع فتح أبواب الحوار بين معسكري الشرق والغرب والنظام الموّحد للدفاع ما زال حلماً يراود الزعماء الطامحين لإرساء أسس السلام في منطقة لا تعرف إلا الهزات. وطوق النجاة من حروب جديدة تؤسس لها الدول العظمى ما زال مدفوناً تحت تراب الاحقاد والخوف المتبادل.

تعريب وتكريد يؤججان نار مدينة النفط




تعريب وتكريد يؤججان نار مدينة النفط




لؤلؤة أفقدت عقد الإستقلالية الكردية رونقه، قطبة مخفية قضّت مضجع السياسة العراقية، جدل بيزنطي لم يهدأ يوماً إلا ليشتعل من جديد حول هوية مدينة شاء القدر أن تتربّع في شمال العراق، فحضنت موزاييك القوميات ومنابع النفط، وحلم بها أبناؤها الأكراد عاصمةً لإقليمهم الذي يتوق الى الحكم الذاتي.

رياح التقسيم

منازل خلت من أهلها، طرقات هجرها مشاتها، دموع في عيون أولاد لا يعرفوا نعمة النوم أو الطفولة في بلد إشتاق لسلام يعمّ أراضيه لينهض من المآزق التي أوقعهها الدهر فيها. عراق سئم من التفجيرات والقتل وتاق الى وحدة ترابه، غير أنّ رياح التقسيم أبت إلا أن تعصف في كيانه الضعيف، قتلاحقت الخطب النارية وتكثّفت التناقضات، وطفت خلافات أزلية على الساحة العراقية من جديد منذرة بإندلاع حرب أهلية بين قوميات تتمسك بأرضها وأخرى تسعى الى الإنفصال. والضحية، كركوك، مدينة النفط والثروات التي تشهد اليوم صراعاً لم تشهد له مثيل بين الأعراق المشكلّة لكيانها من عرب وأكراد وتركمان.

هيمنة مطلقة

عمّال البناء يشيدون المنازل الجديدة، العائلات تتوافد الى المدينة المحصّنة، ضجيج وحياة في شوارع كركوك عكس الهمود المتفشّي في شوارع بغداد. أجواء متفاءلة تنغصّها من وقت الى آخر إنفجار سيارة مفخّخة تودي بحياة عناصر من الشرطة أو مدنيين أبرياء، غير أنّ المشهد سرعان ما يتغيّر عندما يلوح الخوف في عيون الكركوكيين من مستقبل غامض تحمله الايام المقبلة لمدينتهم بعد الإستفتاء الذي سينظّم ليختاروا مصيرها بين الإنضمام الى منطقة الحكم الذاتي الكردي أو البقاء في كنف دولة العراق.

تهجير كردي

صدّام حسين في قصره، إتفاقية آذار 1970 التي أعطت للأكراد حكماً ذاتياً مع تقديم ضمانات لهم بالمشاركة في الحكومة العراقية تطبخ على نار هادئة. وها هو القرار الذي غيّر تاريخ كركوك يطرأ على بال صدّام، هذه المدينة العقبة التي تقف بوجه السلام المنشود بين الاكراد والحكومات العراقية. عناد كردي على حقّهم في نفط كركوك، دفع بالحكومة الى الإعلان عن "حكم ذاتي" للأكراد وفق مقاس مختلف عن إتفاقية 1970. فقامت الحكومة بتغيير الحدود الإدارية لكركوك بشكل يضمن الغالبية العددِية للعرب فيها وأطلقت تسمية محافظة التأميم على المدينة ضـمن سياسة التعريب التي مارسها النظام السابق. وكثّف النظام الصدّامي حملاته لخنق الأكراد، لا بل خطّط لتوطين نصف مليون فلسطيني في كركوك، ليحلوا محلّ الأكراد والتركمان.

وسقط النظام

نيسان 2003، تمثال صدام يتهاوى في ساحة فردوس البغدادية وسكّان شمال العراق ينتزعون الخوف المتجذّر في نفوسهم. أطفال يجرون القطع البرونزية في الطرقات بعد أن نقل أهلهم لهم عمق الجراحات التي حفرها النظام البعثي في نفوسهم. أكراد وجدوا الفرصة سانحة لمطالبتهم مجدداً بالإنفصال عن الدولة العراقية وضمّ كركوك الى كردستان. وتحوّلت المطالبة الى حقيقة عندما تقدّم ممثلو الأكراد الخمسة في مجلس الحكم العراقي بمشروع قانون ينص على إنشاء اتحاد فدرالي في العراق بحيث تُضم فيه كركوك إلى المنطقة الكردية، وذلك دون انتظار حتى صياغة الدستور العراقي الجديد.

دستورية المطالبة

تنبه الدستور العراقي الى الأخطاء التي قام بها النظام البعثي من تهجير لسكّان بعض المحافظات وتغيير هويتها القومية، وإستقطاع مناطق منها وإلصاقها بأخرى بهدف تعديل التركيبة السكانية لتلك المحافظات. المادة 140، مادة دستورية تلزم الحكومة العراقية تطبيع و تصحيح الأوضاع في المحافظات و المناطق التي أضرّ بها نظام صدام حسين و إعادة الممتلكات المنهوبة والتعويض عن الاضرار المادية والمعنوية.
غير أنّ تواضع الجهد الذي يبذله ممثلو شعب كردستان في الحكومة العراقية المركزية وضعت قضية كركوك في أدراج الملفات المهملة، ما وضع مصير أركان المدينة على كفة عفريت بين سلام مرجوّ وفتيل نار الحرب الأهلية التي يمكن أن تندلع في أية لحظة.

الدول الكبرى

أطماع ومصالح وجدت لها أرضاً خصبة في مدينة التجاذبات السياسية. أزمة بدأت محلية وامتدت لتشمل الثلاثي الحدودي، إيران وتركيا وسورية. ضعف في الدولة المركزية فتح المجال أمام اشكال التدخل كلّها التي صبّت في خدمة المذاهب على حساب الكيان العراقي الشامل. موقف تركي صلب تجاه الأطماع الكردية في الانفصال بكركوك وتكوين دولتهم الكردية المستقلة شمال العراق حيث يغزو الخوف نفوس الأتراك من نجاح أكراد العراق في تكوين دولتهم. أمّا الدور الإيراني، فيبدو ملتبساً بين دعم الميليشيات الشيعية لإقامة الدولة الشيعية ورفض إنفصال كركوك وتكوين الدولة الكردية حرصاً على استقرار أراضيها وخوفها من تغذية الشعور لدى الأكراد الإيرانيين للمطالبة بتكوين دولتهم والاستقلال عن حكومة طهران المركزية. وتبقى الولايات المتحدة اللاعب الاساسي في العراق، والمعني الاول في إنفصال الأكراد.