الجمعة، 30 مايو 2008

زهرة سمراء تتكسّر تحت ضربات التناحرات القبلية


زهرة سمراء تتكسّر تحت ضربات التناحرات القبلية




الحلم بات كابوساً... دولة نموذجية رُسمت حولها تصورات وردية كحاملة شعاع الديمقراطية بين جاراتها اللواتي غرقن في بحر التصفيات القبلية خيّبت أمل شعبها وكلّ من تطلّع لمحاكاة نظامها في أزمة بدأت انتخابية وانتهت بتأجيج مشاعر الحقد الدفينة بين أبناء البلد الواحد.

صبغة الإنتقام

عائلات شرّدت من منازلها، أطفال يبكون بعدما فتك الجوع بهم، منازل أحرقتها أعمال العنف فودعت أهلها وأصبحت رماداً لا حياة فيه. كينيا، بلد خسر فرادته حين انتقلت حمى الاقتتال الى أراضيه فكسته بصبغة الانتقام المتبادل فسيطرت المنافسة الانتخابية على عقول الكينيين بين جبهتين كبيرتين، واحدة تمثل الرئيس والحزب الحاكم وأخرى معارضة تمثل قيادة بديلة للتغيير. منافسة حكمتها الخروقات في عدد كبير من الدوائر فكان التزوير عنوانها بشهادة المراقبين الدوليين، وبطلتها المعارضة التي طرحت نفسها كصاحبة الحقّ، وردّة فعل الرئيس، حلف اليمين في القصر الجمهوري.

أزمة حليفين

صراع موالاة ومعارضة، هكذا عرّفت الأزمة الكينية الى العالم لكنّ الحقيقة ما لبثت أن بانت حين أزيلت القشور عن الانقسامات الحقيقية للشعب الكيني والتي بدأت قبل الانتخابات ولكنّها عرفت ذروتها حين بات مصير فئة من الشعب مهدداً. حليفا الماضي رايلا أودينغا والرئيس الحالي مواي كيباكي، حملا معهما الشعب الكيني الى المجهول حين خاضا الانتخابات ضدّ بعضهما وفي نيتهما إلغاء الآخر وتثبيت هيمنة قبيلة على أخرى. المعارض السابق كيباكي الذي أنهى سيطرة دانيال اراب موي التي طالت 24 عاماً تحت اسم "تحالف قوس القزح الوطني" في العام 2002 ناسجاً تحالفاً مع أودينغا للوصول الى سدّة الرئاسة بات اليوم هو المُطالب بالرحيل بعد أن عاد هاجس عدوّه أودينغا يلاحقة في مسيرة المعارضة.

صراع قبلي

وصول كيباكي الى الحكم منذ ست سنوات انتشل الاقتصاد الكيني من القعر وعادت البلاد مرتعاً للسياح الذين أنفقوا مليارات الدولارات سنوياً، لكن الفشل كان رفيق النجاح في مسيرة الرئيس حيث انّ محاولات تثبيت هيمنته كسر التحالفات القديمة فتحوّل صراع الافراد الى عداوة شعب لبعضه البعض، فاصطفّ الكيكويو خلف رئيس الجمهورية، فيما حشد زعيم المعارضة ائتلافاً من قبائل عديدة، وأهمها قبيلة الليو. استقرار نعمت به البلاد طويلاً زعزعته عقدة السلطة في مجتمع لا تملك فيه أية قبيلة أكثرية كافية لبسط نفوذها فكانت النزاعات المدمرة هي الحاكم الاخير.

انهيار أمني

مئات الاشخاص قتلوا في الاضطرابات وأعمال العنف التي أعقبت انتخابات الرئاسة منذ 27 كانون الأول الماضي. 250 ألف شخص هربوا من المناطق الاكثر تضرراً في البلاد... فسقط الاستقرار الذي لطالما تغنت كينيا به. عمليات السلب والنهب تنتشر في الشوارع زارعة الخوف في قلوب الابرياء من إنفلات أمني لا يردعه رادع والفقر عاد بجبروته ليتحكم بنفوس الكينيين، كل ذلك تحت شعار "تزوير الانتخابات" ولكن ما يتردّد في أروقة الحكومة الكينية يمسّ الازمة في جوهرها، فما يحدث حقاً هو عملية "تطهير عرقيّ" بين الكيكويو والليو كما حدث في مجزرة راوندا العام 1994. فقد شهدت مدينة الدورت الواقعة في الشمال الغربي من البلاد العديد من الفتيان وهم يلوحون بالفؤوس والسواطير، ويقيمون الحواجز على الطرقات ويصبون جام غضبهم وانتقامهم من جيرانهم الكيكويو.

سيناريو رواندا

عنف يهزّ المدن الكينية، زارعاً الرعب في نفوس السكان من العصابات المسلحة التي تجوب الشوارع، مشاهد تعيد الى الذاكرة الجريمة التي وقعت في راوندا، جارة كينيا، حيث وقع 800 ألف مدني ضحية الصراع الاثني حين نظمت قبيلة الهوتو تظاهرات للمطالبة بالديمقراطية بعد اغتيال بعض المرشحين للانتخابات النيابية من ممثلي قبائل الهوتو واتهام قادة الجيش من قبيلة التوتسي بتنفيذها، فتحولت التظاهرات الشعبية إلى أعمال عنف جرّت الى هذه البلاد ويلات الهجرة والالغاء. مستقبل خطير تحاول البعثات الدبلوماسية تفاديه، فتنشط الوساطات وخصوصاً من قبل رئيس الاتحاد الافريقي لإخراج كينيا من قمقمة الزوال.

تحالفات دولية

ثروات طبيعية هائلة، ألماس وذهب ونحاس ركّزت اهتمام الدول الكبرى على "البحيرات العظمى" أي كينيا ودول الجوار التي تعوم على موارد تحلم بها الدول الاوروبية وتتطلع إليها الولايات المتحدة ما وضعها في مهبّ رياح التدخلات الخارجية. نزاعات مستمرة منذ أكثر من نصف قرن هزّت دول أفريقيا وشعوبها فكانت المجازر هي لغة الحوار والإلغاء طريقة التعاطي بين قبائل البلد الواحد. واقع استطاعت كينيا أن تنجو منه طويلاً لكنّه ما لبث أن طرق أبوابها تحت راية سياسية. ولكن لا يمكن تجاهل موقع هذه الدولة الاستراتيجي بالنسبة لواشنطن وباريس، فهي جنة استثمارية بالنسبة لهم، والاستنفار الدولي بعد الانتخابات الكينية خير دليل أن العواصم الكبرى لن تقف مكتوفة الأيدي أمام انزلاق كينيا محاولة إعادة إرساء ثقافة الحوار ولكنّها لم تنجح في تحصينها من لعنة التناحر القبلي الذي يمهر القارة الافريقية بطابع التخلّف.

ليست هناك تعليقات: